حرية … سلام وعدالة

.

فضيلي جماع.. الإسقاط المسرحي على الشعر


يعتبر فضيلي جماع أحد أبرز شعراء جيل السبعينيات في السودان، كما كتب في المسرح إحدى أهم المسرحيات (المهدي في ضواحي الخرطوم)، التي أثارت جدلا واسعا في الساحة الثقافية، إذ اعتبرها البعض مناوئة للحكم القائم في الثمانينيات، كما اعتبرها البعض إعادة لتاريخ الثورة المهدية.
بجانب ذلك له إسهاماته في الرواية والنقد، وأصدر كتابا بعنوان “دراسات في الثقافة السودانية”، هاجر منذ ربع قرن -مثل كثيرين من مبدعي السودان- والتقته الجزيرة نت للحديث عن محاور شتى من تجربته:
كنت قد بدأت بالكتابة السردية، وجربت التأليف المسرحي، إلى أي حد أفادت تجربتك الشعرية من التجريب في هذه المجالات؟
لم أشغل نفسي كثيراً بمردود التجارب الإبداعية الأخرى التي مارستها وما أزال أمارسها على تجربتي الشعرية، لكني أحسب أنّ محاولاتي في الأجناس الأدبية الأخرى ربما رفدت القصيدة عندي تميزاً في بعض الجوانب. لاحظت أنني استخدمت إسقاطات أشبه بالسرد القصصي في صلب أكثر من قصيدة، أي أنّ أصواتا لشخصيات تدخل عرضاً في النص الشعري لتروي حكاية، كما إنني استخدمت الحوار في أكثر من قصيدة بما يشبه الإسقاط المسرحي. وعلى كل حال فإنّ من الأفضل لي أن أترك هذا الأمر لقارئ شعري العادي والناقد.
الشعر لم يعد ديوان الأمم، بل تحول إلى رافد من روافد الرواية، لأن الرواية بداخلها مع السرد التشكيل والرؤية البصرية… إلخ، متى يعود الشعر إلى ميدانه الأساسي؟
سيظل الشعر ما بقي الإنسان لوناً من ألوان التعبير الأدبي الراقي لا استغناء عنه، لكنني أؤمن بمقولة الناقد الذي قال إنّ الرواية هي قصيدة القرن الـ21. على الصعيد الشخصي أجدني أكثر ميلاً للسرد القصصي (الرواية) والتأليف المسرحي عوضاً عن الشعر، وأعتقد أنني أتجه الآن للرواية محاولاً من خلالها سرد تفاصيل عالم عشته وعاشه جيلي أرى أنه كثير الإلحاح في ذاكرتي ليجد طريقه إلى القارئ في الشكل السردي. وقد يكون ذلك أكثر وضوحاً في الرواية التي آمل أن تخرج للقارئ في نهاية فصل الصيف الحالي، آمل ذلك.
قصيدة النثر احتلت الآن مكانة مميزة في خارطة نشر الشعر العربي. ما أسباب ذلك؟ وهل أصبحت الحداثة حكراً على النثريين؟
لا يوجد سبب يجعلني أقف ضد التجريب الإبداعي، فما يسمى بالحديث في كل عصر يصبح ذات يوم جزءاً من الموروث الإنساني، بعد أن تتخطاه عبقرية الإنسان بابتكارها أنماطا وقوالب جديدة تمارسها أجيال حديثة في أسلوب حياتها وسبل كسب عيشها ومكونها الثقافي. لذا، فإن من باب نافلة القول إنّ ما يسمى بالشعر المنثور أو قصيدة النثر (Blank Verse) لا يخرج عن هذه القاعدة الحتمية لصيرورة الحياة في هذا الكوكب.
ما يضع مسافة بيني وبين كثير من شعراء هذا اللون أمور أراها ضرورية في جسد القصيدة كمنتج إبداعي إنساني في كل لغة. أول تلك العوائق بيني وبين كثيرين من شعراء قصيدة النثر أنّ هذه التجربة لا يحكمها أي قانون أو إطار، لا تقل لي هناك موسيقى داخلية في قصيدة النثر، أو العلاقة الصوتية بين بعض الكلمات، هذا جاء في النثر الفني في عصور سحيقة و”شبع موتاً”.
الشعر تحول إلى هتاف، والهتاف تحول إلى شعر. كيف تقرأ القصيدة الحديثة في السودان؟
أعتقد أن الراهن السياسي لعب دوراً في إضفاء الهتافية على القصيدة، الشيء الذي قاد الكثيرين إلى التركيز على المضمون بدلاً من الاهتمام بكيمياء القصيدة وعناصر الموسيقى والبناء اللغوي فيها واستدعاء أصوات الموروث والوافد المحدث في بناء قصيدة ترتدي ثوب الحداثة بمفهومها الإنساني، بدلاً من اجترار الهتافية وتكرار أصوات تيارات رفدت المكون الشعري السوداني بنصيب وافر من التحديث ذات يوم.
“أعتقد أن الراهن السياسي لعب دوراً في إضفاء الهتافية على القصيدة، الشيء الذي قاد الكثيرين إلى التركيز على المضمون بدلاً من الاهتمام بكيمياء القصيدة وعناصر الموسيقى والبناء اللغوي فيها”
الواقع يقول إنّ الخروج من المأزق يفترض ضخ دم جديد في القصيدة من حيث قاموسها اللغوي وسعيها للحداثة بالتزود بالموروث والاقتباس من جديد الإبداع الإنساني أينما وجد، فالعالم -بفضل ثورة المعلومات- أصبح قرية كونية كما يقولون.
وعلى الرغم من بعدي المكاني عن وطني لحوالي عقدين ونصف العقد، فإنني أتابع من قريب الناتج الأدبي -خاصة الشعر والرواية- ويقيني أنّ جيلاً جديداً من المبدعين سيرى النور قريباً، وسيرفدون جسد القصيدة السودانية الحديثة بدماء جديدة.
مدرسة الغابة والصحراء وضعت محددات لتعريف الهوية إلا إنّ الشعراء خرجوا منها وعنها. ماذا يقول فضيلي جماع في هذه المدرسة؟
ما عرف في كراسة الأدب السوداني بـ”مدرسة الغابة والصحراء” لم يكن مدرسة، بل كان تياراً أدبياً تميزت به حركة نهضوية في بواكير الستينيات، واتسمت بوعي سياسي وإبداعي متقدم نسبياً آنذاك. ذلك أن المدرسة الإبداعية أو الفكرية تحكمها أطر و”مانيفستو”، وقد يطول أمدها حتى تظهر سماتها الإبداعية بوضوح وتجيب عن أكثر من سؤال، وأول من قام بنحت الاسم الشاعر النور عثمان أبكر كما حدثني صديقه الشاعر الكبير محمد المكي إبراهيم. “الغابة والصحراء” كانت تياراً انفض سامره قبل أن تكتمل معالمه.
“الغابة والصحراء” كانت في أفضل حالاتها شعاراً أدبياً وسياسياً برّاقاً، لكنه لم يكمل تأسيسه كمدرسة أدبية ذات خطاب تأسيسي له ملامحه، هذا لم يحدث بكل أسف. باعتقادي أنها ظلت أكثر وضوحاً في الطرح السياسي المعروف بالسودان الجديد -رغم العقبات أمام هذا المشروع هو الآخر- إلا إنه يملك وضوحاً في الرؤية المستقبلية لأطر الحكم ودولة المواطنة القائمة على التعدد وتساوي الحقوق والواجبات في السودان وزوال هيمنة عناصر إثنية بعينها على الآخرين.
تجربة الاغتراب والهجرة وانعكاساتها على أبناء جيلك من المبدعين السودانيين، كيف تراها؟
ربما الوقت لم يحن بعد وسط هذا الشتات لكي أقول رأياً ناضجاً في انعكاس “الدياسبورا” السودانية على نتاج المبدعين من أبناء جيلي. لا أشك أبداً أن من يحالفه الحظ منا ليعيش فترة ما بعد الشتات سيقرأ إبداعاً متفرداً، فإن أكثر من عانى في العقود الأخيرة من تاريخ بلادنا هم قبيل الإبداع، ظلوا لفترة طويلة محاصرين في مسام جلدهم وهم يحلمون بالحرية، التي هي أغلى هدايا الخالق للإنسان.
كما أنّ الشتات والاغتراب داخل وخارج الوطن يرجى أن يكون قد رفدا الكثيرين منهم بخميرة وعطاء مميزين مما يثري الساحة الأدبية قريباً. قرأت ما وقع في يدي من كتابات لبعضهم – فإن صلتي بالإبداع السوداني مستمرة عبر المطبوعة وعبر مواقع التواصل الاجتماعي. وما قرأته أعاد لي الطمأنينة والثقة في الكثيرين والكثيرات منهم.
المصدر : الجزيرة

محمد نجيب محمد علي-الخرطوم

مراجعات

  • مستوى التفاعل 0%
تقييم القراء 0.00% ( 0
شارك في التصويت )


مشابه

اترك تعليقاً

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.