حرية … سلام وعدالة

.

التفاوض مع النظام، نظرة لتطوير الهدف والمفهوم


انتهاك الغد أشد خطورة وفظاعة، ولا ينتهك مستقبل الشعوب شيء أشد من تسويف المناضلين عن حقوقها. وإن كان المجرمون متورطين في إبادة شعوب السودان "الحالية" فإن المسوّفين يبيدون شعوب السودان "القادمة" من حيث دروا أو لم يشعروا. وحسنا ً فعل وزير الخارجية الأمريكي بالضغط على فرقاء جنوب السودان (أو تحفيزهم أو إقناعهم أو إيا ً ما فعل معهم) للجلوس للتفاوض على مستوى قيادي بلا تسويف ولا مماطلة لإنهاء حالة الحرب في  أحدث جمهوريات الكوكب وأحوجها على الإطلاق لحالة السلام التي هي أفضل من حالة الحرب في كل الأحوال والظروف. هذا الإحسان تشينه لا تزال مواقف وسياسات الإدارة الأمريكية تجاه شعب شمال السودان، الّذي لا يزال يعاني إبادات جماعية على مختلف الصعد، في الوقت الذي تصر فيه واشنطن على "دعم" النظام الذي ظل يتمادى في تمويل واستخدام المليشيات البربرية لقتل مواطنيه، إضافة لطائرات الانتنوف والسياسات الأخرى المدمرة التي شملت بضررها كل مواطن سوداني بلا استثناء، بما في ذلك أولئك الذين لم يولدوا بعد.
 وغني عن التنبيه أن الدوافع الانسانية والأخلاقية – إن وجدت فعلا – التي دفعت الولايات المتحدة لمساعدة الشعبين الليبي والسوري على التخلص من الأنظمة التي " تقتل شعوبها " كانت تستدعي وقوفا ً أمريكيا ً أكبر مع الشعب السوداني للتخلص من نظام البشير، أو لإبطال قدرته على مزيد من القتل والإبادة على أقل تقدير. لم يكن هناك سعي جاد لإنقاذ مئات الالاف من المواطنين المدنيين في مناطق النزاعات الجديدة بعد 2011 في جبال النوبة والنيل الأزرق، والمتجددة في دارفور، باستصدار قرار أممي بحظر الطيران في تلك المناطق مثلا ً. أما عن دارفورتحديدا فحدث ولا حرج؛ استمر النظام في ارتكاب فظاعات أكبر بكثير جدا ً من تلك التي قادته لأضابير الاتهام في الجنائية الدولية. ومهما تشاءم رافضو تنفيذ أمر القبض الدولي على البشير ومعاونيه وتحججوا بأن ذلك من شأنه أن يحدث فوضى عارمة بالبلاد فلن يصلوا بخيالهم إلى ما حدث فعلا ً جراء الإبقاء على نظام الانقاذ مطلق السراح واليد في رقاب مواطنيه هكذا. 
على أن من الإمعان في العجز إلقاء اللوم على واشنطن وحدها في استمرار هذه الحالة السودانية المخزية والمدمرة . فللضحايا السودانيين قياداتهم وتنظيماتهم السياسية والمدنية وحتى العسكرية، ومجموعات كبيرة مرنة التشبيك والتنظيم لهذا الحد أو ذاك من الشباب والناشطين والمناضلين والثوار، ومن الخطل والغباء النظر إلى كل هذا الزخم باعتباره غير موجود أو غير مؤثر، مع وجود حكمة وحنكة وإخلاص وقدرة على الفعل والتضحية لا يمكن إنكارها. ولكن أين الخلل؟ لماذا يبدو نظام البشير شبيهاً بالممثل على خشبة مسرح الرجل الواحد؟ لماذا يظل وحده تقريبا  صاحب المبادأة والمبادرة والفعل ورد الفعل؟ في التقدير المتواضع جدا للذي يكتب هذا، أن واحدة من العوامل التي تصيبنا بالكساح والشلل كمقاومين سودانيين لنظام القهر والإبادة هذا، هو الاستجابة السلبية  – غير الواعية ربما –   لمطلوبات واشنطن، والواجهات الدولية والإقليمية الواقعة تحت تأثيرها المباشر وغير المباشر، والتي تنبني على أساس التعامل مع البشير ونظامه باعتبارهم  شركاء سياسيين وطنيين، وليس كمجرمين، أو متهمين على الأقل، مطلوب القبض عليهم بنص قرارات دولية ذات صيغة قانونية ملزمة للأمم المتحدة ولمعظم شعوب وحكومات العالم الحر.
 إن النتيجة الحتمية لهذه المطلوبات التي تنافي واقع الحال المحلي ميدانيا ً، والمتمثل في قرى وبلدات لا تزال تعيش حالة القتل والانتهاكات الوحشية بشكل يومي،  وتجافي واقع الحال الدولي سياسيا وقانونيا بكون قادة النظام السوداني مطلوبين جنائيا في جرائم يندى لها الجبين. وما لم نصبح كفاعلين سودانيين لأجل تغيير إيجابي جذري يعود بالأمن والاستقرار والازدهار لبلادنا وأهلنا "مرنين" للحد الذي نتمكن معه من تغيير هذه المطلوبات ووضعها في إطارها الانساني والقانوني والسياسي الصحيح بحيث يكون هدف أي مفاوضات هو كيفية تسليم المطلوبين للجنائية أو تفادي هذا التسليم بمحاكمات محلية أو اقليمية شديدة الوثوقية وكيفية تفادي الآثار السالبة لهذا التسليم الواجب وهذه المحاكمة الضرورية، ولا يكون هدفها بحال من الأحوال بحث إمكانية استمرار القتلة في الحكم وممارسة المزيد من القتل، مالم نستخدم كل طاقاتنا وخبراتنا وإمكاناتنا في إحداث هذا التحول العملي والمنطقي في مفهوم التفاوض مع النظام وفي أهدافه فإننا بلا شك ولا مواربة شركاء أصيلون بهذا التسويف الفتاك في إبادة ما تبقى من شعبنا بل وفي الإبادة الاستباقية لشعوبنا القادمة التي لم تولد بعد ! هذا التطوير وهذا التثوير لمفاهيم وأهداف التفاوض يدعمه بلا شك ملء مساحات الفعل السياسي والمدني والثوري الفارغة في كل المواقع والجبهات.
———————————
فتحي البحيري

مراجعات

  • مستوى التفاعل 0%
تقييم القراء 0.00% ( 0
شارك في التصويت )



اترك تعليقاً

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.